مؤتمر ALDIC يُشرّح مكامن ضعف النظام الضريبي في لبنان ويقترح حلولاً
«توسيع القاعدة الضريبية ومعالجة الاقتصاد غير النظامي في لبنان – مسار حتمي نحو التعافي المستدام» هو عنوان المؤتمر الذي نظّمته جمعية ALDIC، وناقش فيه المعنيون من وزراء، وممثلين عن مؤسسات دولية، ومجتمع مدني، وقيادات من القطاع الخاص، وخبراء تقنيين، التحديات المستمرة في لبنان على صعيد تعبئة الإيرادات، الامتثال الضريبي، الاقتصاد غير النظامي، الأدوات المبتكرة، واستدامة المالية العامة
طعمة: الضريبة هي حجر الأساس في العقد الاجتماعي
استُهل المؤتمر بكلمة ترحيبية لرئيسة جمعية ALDIC المحامية كارين طعمة، أكدت فيها أن «الضريبة ليست مجرد التزام مالي، بل هي حجر الأساس في العقد الاجتماعي. وعلى مدى ما يقارب العقد، دافعنا في الجمعية عن مفهوم “المواطنة المالية”، انطلاقاً من قناعةٍ بأن المواطنين المطلعين والفاعلين لا يحق لهم فقط المطالبة بالشفافية، بل تقع على عاتقهم أيضاً مسؤولية محاسبة الدولة على خياراتها وأدائها»
وأضافت: «في حين يجب أن يُعتبر الحصول على المعلومات العامة حقاً مكفولاً، فإن مراقبة عمل الدولة يجب أن تُستعاد كواجبٍ مدني لا كامتيازٍ اختياري»
وشددت على أن انعقاد المؤتمر يأتي في لحظة حاسمة، فلبنان يخسر اليوم نحو 60% من نشاطه الاقتصادي الشرعي لصالح الاقتصاد غير النظامي، في حين تراجعت الإيرادات الضريبية إلى ما دون 5% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2022 قبل تطبيق إجراءات إعادة تقييم الضرائب. كما يعاني القطاع العام – المفترض أن يقود الإصلاحات – من ضعف حاد في قدراته المؤسسية واللوجستية
مكي: لتطبيق الاقتصاد السلوكي لتحفيز الامتثال الضريبي
تضمنت أعمال المؤتمر جلستين حواريتين تناولت كل منهما بُعداً مختلفاً ومترابطاً من جوانب إصلاح النظام الضريبي. حملت الجلسة الأولى عنوان «نظرة معمّقة داخل الإدارة الضريبية: التحديات، الثغرات، الفجوات، ومساحات التحرك»
وتحدث وزير الدولة لشؤون الإصلاح الإداري فادي مكي عن أهمية «تطبيق علم الاقتصاد السلوكي، وبالأخص أدوات التنبيهات التحفيزية (Nudges)، لتحسين الالتزام بدفع الضرائب وفواتير الخدمات»، مستنداً إلى تجارب من المملكة المتحدة ولبنان. وأوضح أن «الاقتصاد السلوكي يجمع بين علم النفس والاقتصاد لفهم أسباب عدم التزام الأفراد أو الشركات بالقوانين، ليس بدافع سوء النية، بل بسبب تحيزات معرفية مثل: تحيز الحاضر، النفور من الخسارة، أو الثقة المفرطة بالنفس»
وشدد على دور هذه الأدوات في تعزيز الامتثال الضريبي، مستشهداً بتجارب ناجحة في بريطانيا حيث أدت رسائل من نوع «9 من كل 10 من جيرانك دفعوا الضرائب» إلى زيادة واضحة في معدلات الدفع. وذكّر بأن تجارب مماثلة في لبنان – استخدمت الرموز الوطنية لإثارة الشعور بالواجب المدني – أثبتت فعاليتها أيضاً في تحصيل فواتير الخدمات
وأكد مكي أن “هذه التدخلات منخفضة التكلفة والمبنية على الأدلة يمكن أن تحقق مكاسب كبيرة في الامتثال، من دون الحاجة إلى تشريعات جديدة”. وختم بالقول: “حتى في سياق ضعف ثقة الجمهور، يمكن لهذه التدخلات السلوكية تعزيز الامتثال الطوعي من دون الحاجة إلى قوانين جديدة أو إنفاذ صارم”
ليما: لإصلاحات شاملة في السياسة الضريبية
سلّط الممثل المقيم لصندوق النقد الدولي في لبنان، فريدريكو ليما، الضوء في مداخلته على “التغيّر الكبير في المشهد المالي اللبناني. فقد بلغت إيرادات الحكومة حوالي 1.5 مليار دولار في عام 2021، ومن المتوقع أن تصل إلى 6 مليارات دولار في موازنة 2026″، مشيراً إلى أن “هذا التعافي الجزئي ناتج عن إجراءات مثل «دولار الجمارك» والتعديلات الاسمية”
لكنه حذّر من “الضغوط الإنفاقية التي تشمل أجور القطاع العام، فوائد الدين، وأعباء إعادة الإعمار، والتي تهدد الاستقرار المالي”، مشدداً على “ضرورة إعادة العمل بضريبة الوقود الموقوفة، التي يمكن أن تحقق نحو 400 مليون دولار سنوياً”
ودعا إلى “إصلاحات شاملة في السياسة الضريبية، بما في ذلك تحديث قانون ضريبة الدخل المجزّأ، توسيع قاعدة ضريبة القيمة المضافة، وإدخال ضرائب على الأملاك والسلع الضارة”
شحادة: لإعادة تعريف التهرّب الضريبي قانوناً
من جهته، قدّم مدير إدارة الإيرادات في وزارة المالية، لؤي الحاج شحادة، “عرضاً تفصيلياً للتحديات الهيكلية التي تواجه تحصيل الإيرادات”، مشيراً إلى “نقص التكامل بين دوائر ضريبة القيمة المضافة وضريبة الدخل، واعتماد أنظمة تكنولوجيا معلومات قديمة (آخر تحديث عام 2012)، إضافة إلى نقص حاد في الموظفين (تم شغل 40% فقط من الوظائف المخصّصة)”
ورأى أن “غياب رقم تعريف وطني موحّد يشكّل فجوة حاسمة تعيق التنسيق بين جهات مثل السجل التجاري والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي”، مشدّداً على “ضرورة إعادة تعريف التهرّب الضريبي قانونياً لاستهداف المخططات المعقّدة التي تقوم بها الشركات الكبيرة، بدلاً من معاقبة حالات عدم الامتثال البسيطة”
ضاهر: لتوسيع القاعدة الضريبية وزيادة الإيرادات بشكل عادل
اقترح المحامي كريم ضاهر (مؤسس الجمعية اللبنانية للدفاع عن حقوق المكلفين – ALDIC)، في مداخلته، “المبادرة إلى اتخاذ إجراءات عملية ناجعة وسريعة على المدى القريب والمتوسط، مع إجراء إصلاحات ضرورية ملازمة وقابلة للتنفيذ، لتوسيع القاعدة الضريبية وزيادة الإيرادات بشكل عادل”
ومن بين هذه الإجراءات “التحرّك السريع دون تأخير لاسترداد المستحقات غير المسدّدة من الرسوم والضرائب على أصحاب الكسّارات وشاغلي الأملاك العامة البحرية والنهرية (استناداً إلى القانون رقم 64/2017)”، مطالباً بـ”ملاحقة مزوّدي الإنترنت غير الشرعيين ومشغّلي المولدات الخاصة وإخضاعهم للضرائب المترتبة، بالإضافة إلى تحفيز البلديات على التبليغ عن المكلفين غير الرسميين وغير المسجلين لدى وزارة المالية”
كما شدّد على “أهمية الاستفادة من أدوات الشفافية الضريبية الدولية وتبادل المعلومات بموجب أحكام القانون 55/2016 للوصول إلى بيانات الدخل الخارجي، ولا سيما إيرادات رؤوس الأموال المنقولة العائدة للمقيمين اللبنانيين”
ودعا ضاهر كذلك إلى “تغييرات هيكلية متوسطة الأجل، تشمل استبدال نظام ضريبة الدخل الحالي القائم على الضرائب النوعية، بضريبة دخل موحّدة شاملة جميع المداخيل في الداخل والخارج، بما يتماشى مع المعايير الدولية، واعتماد الحوكمة الإلكترونية وتقنيات البلوكتشين والتنقيب في البيانات (Data Mining) لتعزيز تبادل البيانات بين الوكالات، وفرض ضرائب تخصيصية على الأرباح الاستثنائية المتحققة خلال فترة الأزمة”
كما شدد على ضرورة “إصلاح قانون ضريبة الأملاك المبنية وقانون ضريبة الإرث والهبات (رسوم الانتقال)، لمعالجة الثغرات والقضاء على الممارسات التي تسهّل التهرّب الضريبي والمعاملات الوهمية”
الهاشم: الفوترة الإلكترونية تحوّل مهم
في الجلسة الثانية، قدّم مارك الهاشم (من شركة PwC) مداخلة بعنوان «الفوترة الإلكترونية كحل تحويلي مهم»، موضحاً أنّ «فرض الفواتير الإلكترونية الفورية والمصَدَّقة في المعاملات بين الشركات (B2B)، ومع الجهات الحكومية (B2G)، يمكن أن يساعد لبنان في سدّ فجوة ضريبة القيمة المضافة المقدّرة بـ3 مليارات دولار – وهي الفارق بين الإيرادات النظرية والفعليّة»
واستشهد الهاشم «بتجربة المكسيك الناجحة، حيث جرى تقليص الفجوة من 20% إلى 5% خلال خمس سنوات من تطبيق النظام»، موصياً بـ«تنفيذ تدريجي يبدأ من المشتريات العامة، بما يرسخ علاقة تعاونية قائمة على البيانات بين المكلّفين والدولة»
حريري: إنشاء «السجل الوطني الموحّد»
من جهته، ربط الدكتور نزار حريري (من المعهد الفرنسي للشرق الأدنى – Ifpo) «توسيع القاعدة الضريبية بإصلاح سوق العمل»، مشيراً إلى أنّ «أكثر من 60% من القوى العاملة في لبنان، البالغ عددها نحو 1.2 مليون عامل، يعملون في الاقتصاد غير النظامي، حيث تُستثنى قطاعات كاملة مثل الزراعة والعمل المنزلي من الحماية القانونية»
وأوضح أنّ «هذا النمط البنيوي من عدم الرسمية لا يضيّق القاعدة الضريبية فحسب، بل يعمّق أيضاً التفاوت الاجتماعي»، داعياً إلى «نهج شامل يدمج بين الانتقال إلى الرسمية والحماية الاجتماعية»، مستشهداً «بتجربة إيطاليا التي قامت بتسوية أوضاع أكثر من مليون عامل غير نظامي، ما عزّز في الوقت نفسه الإيرادات والتماسك الاجتماعي»
واقترح إنشاء «السجل الوطني الموحّد» (NUR) بوصفه أداة أساسية لتعزيز الرؤية الإدارية، وتحسين الامتثال الضريبي، والحدّ من التسرب في الإنفاق الاجتماعي، وتمكين تطبيق نظام ضريبي تصاعدي. وأكد أنّ «مواءمة الحقوق الاجتماعية مع الحوافز المالية تمكّن الدولة من إعادة بناء عقد اجتماعي–مالي يقوم على الشمول والتكافؤ»
إبراهيم: المشكلة في كيفية جمع الإيرادات وتوزيعها
شدّدت ياسمين إبراهيم (منظمة اليونيسف) في مداخلتها على «الترابط الجوهري بين المالية العامة والحماية الاجتماعية في لبنان، ولا سيما في ما يتعلق بالتزامات الدولة بموجب اتفاقية حقوق الطفل التابعة للأمم المتحدة، التي تنصّ على استخدام الحد الأقصى من الموارد المتاحة لضمان حقوق الأطفال»
وأوضحت أنّه «رغم الأزمة المالية الحادّة، فإن المشكلة الأساسية لا تكمن في نقص الأموال، بل في كيفية جمع الإيرادات وتوزيعها. فمشروع موازنة 2026 يعتمد بصورة مفرطة على الضرائب غير المباشرة والرجعية – التي تشكّل 86% من إجمالي الإيرادات الضريبية – مثل ضريبة القيمة المضافة ورسوم المحروقات، وهي ضرائب ترهق الأسر ذات الدخل المحدود»
واعتبرت أنّ «إقرار أول استراتيجية وطنية للحماية الاجتماعية خطوة إيجابية، إلا أن نجاحها مرهون بتأمين تمويل عادل ومستدام»، داعيةً إلى «إصلاحات ضريبية تصاعدية، وتحسين التحصيل، واستخدام أدوات غير مالية مثل السجل الاجتماعي الوطني (قاعدة بيانات مركزية لتحسين الاستهداف، وتقليل الازدواجية، وزيادة الشفافية في توزيع المنافع)»
واختتمت بالتأكيد أن «إعادة بناء العقد الاجتماعي تتطلب تغييراً في النظرة إلى الضريبة، بحيث تُفهم على أنّها مساهمة في الصالح العام لا عبئاً على الأفراد؛ فحين يلمس المواطنون منافع عادلة وملموسة في الخدمات والحماية الاجتماعية، يزداد استعدادهم للامتثال الضريبي»
فريجي: «القطاع النظامي يتحمّل العبء الضريبي بشكل غير عادل»
أكدت ممثلة القطاع الخاص النظامي، ريما فريجي، أنّ «تعافي الاقتصاد اللبناني يجب أن يعطي الأولوية للنمو، بدلاً من الاكتفاء بالتقشف المالي»، مشبّهةً وضع لبنان بـ«شركة مفلسة تحتاج إلى إدارة التكاليف وزيادة الإيرادات معاً للبقاء». وانتقدت «تركيز الدولة الحالي على تحصيل الإيرادات من القطاع الخاص النظامي الملتزم أصلاً، في وقت يغيب فيه أي ضبط فعلي للاقتصاد غير النظامي الواسع
وحذّرت من أن «هذا النهج يثبط الامتثال الرسمي، ويزيد المنافسة غير العادلة، ويُسرّع من إغلاق الشركات (حيث أُغلقت 38,000 مؤسسة مسجّلة منذ عام 2019)»، مشددةً على أنّ «القطاع النظامي يتحمّل بشكل غير عادل العبء الضريبي ومتطلبات الامتثال عن مجمل الاقتصاد، بينما يعمل الفاعلون غير النظاميين من دون رقيب، ما يضعف خلق فرص العمل، ويقلّص الإيرادات، ويقوّض المؤسسات والثقة بالحكم»
ودعت إلى «إنشاء فريق عمل مشترك بين القطاعين العام والخاص لتصميم حوافز واقعية للانتقال إلى الرسمية، ورقمنة الامتثال الضريبي والإداري، ومحاربة الاقتصاد النقدي غير المراقب، وربط الامتثال الرسمي بمنافع ملموسة للمؤسسات». وختمت: «على الدولة الانتقال من عقلية الجباية إلى نهج شامل يركّز على النمو، ويحمي ويدعم القطاع الخاص النظامي باعتباره الأصل الأهم للتعافي المستدام»
مكافحة الفساد وتعزيز النزاهة المالية
من جهته، شدّد محمد المغبغب على أنّ «معالجة الاقتصاد غير النظامي لا يمكن أن تنفصل عن مكافحة الفساد وغسل الأموال»، داعياً إلى «اعتماد نهج قائم على تقييم المخاطر في التدقيق الضريبي، مع تركيز الموارد على حالات التهرّب الكبيرة وذات القيمة العالية»
كما دعا إلى «تعزيز وحدة التحريات المالية لتتبّع التدفقات المالية غير المشروعة»، مؤكداً أنّ «غياب إطار موثوق لمكافحة الفساد سيؤدي إلى فقدان أي إصلاح ضريبي لمشروعيته أمام الرأي العام»